- ALBILADPRESS.COM - A la Une - 24/Aug 20:45

حين يزهر “السوق المركزي” بالحياة... قبل الشمس بساعات

في المنامة، لا يبدأ “السوق المركزي” حين تشرق الشمس، بل يبدأ قبلها بساعات، في زمنٍ ما يزال نصفه ليلًا ونصفه الآخر على وشك أن يستيقظ. هنا، حيث تلتقي رائحة الأرض بالبحر، وحيث تتقاطع حكايات المزارع البعيد مع تعب العمّال القريبين، ينهض السوق ككائنٍ حيّ يتنفس قبل أن تتنفس المدينة.تدخل الشاحنات تباعًا، تحمل صناديق محكمة، يفتحها الرجال بأيدٍ خبيرة كمن يكشف سرًا قديمًا. الطماطم أول من يعلن حضوره بصفوفه الحمراء المتلاصقة، كأنها جنود في استعراض فجري. إلى جوارها تتراكم أكياس البطاطا والبصل، بألوانها الصفراء والحمراء، تعلن أن الأرض ما زالت تمنح، وأن الطرق الطويلة التي قطعتها لم تُذهب من نضارتها شيئًا.لا شيء في السوق يُترك للصدفة. كل خطوة محسوبة، كل حركة مقصودة. رجل يحمل صندوقًا فوق كتفه وكأن بينهما عهدًا قديمًا، وآخر يدفع عربة مليئة بالخضار بعزمٍ لا يلين. تتوزع الأجساد بين الأروقة، وتتشابك الأصوات: همسات تفاوض، ضحكة قصيرة تكسر صمت التعب، أو نداء عابر يوجّه صندوقًا في طريقه الصحيح. السوق هنا ليس فوضى، بل نظام سريّ يعرفه من اعتاد أن يجيء في هذا الوقت. المكان نفسه يذكّرك بأن الأسواق ليست مجرد تجارة. هي ذاكرة المدينة وحياتها اليومية. من هذا الفضاء، تبدأ حكايات النهار: عائلة تشتري ما يكفيها من الفاكهة، مطعم يجهّز لزبائنه، بائع صغير في حي شعبي ينتظر حصته من الخضار الطازجة. كل صندوق يوضع في مكانه هو وعدٌ بوجبة ستُطهى، ومائدة ستُمد، وأيدٍ ستأكل. تستطيع أن ترى في عيون العمّال شيئًا من الألفة. كأنهم يعرفون أن هذا المشهد سيتكرر غدًا وبعد غد، لكنهم يتعاملون معه كل مرة وكأنه المرة الأولى. يحملون الخيرات على أكتافهم، يكدّسونها في مساراتٍ مرتبة، يفتحون أبواب السوق للمدينة لتأتي وتأخذ ما تحتاجه. وهم، قبل غيرهم، أول من يلمس الفجر بعرقهم. وحين يبدأ الضوء يتسرّب إلى المكان، يكون المشهد قد اكتمل. البضاعة مصطفة، الألوان في تناسقها الطبيعي، الروائح تتداخل: رائحة البقدونس الطازج مع البصل، الطماطم مع الفلفل، والبطاطا مع رطوبة الليل الأخيرة. عندها فقط، يدخل النهار السوق، ويصبح مستعدًا ليستقبل أول المشترين. السوق المركزي في المنامة ليس مجرد مركز تجاري. هو قلب المدينة الذي يخفق قبل أن ينهض الناس من أسِرّتهم. فيه تلتقي الطرق، وفيه تتلاقى الأيدي، ومنه يبدأ يوم المدينة طويلًا وممتلئًا بما يكفي من الخيرات. في صور الفجر هذه، ترى السوق كما لا يراه كثيرون: في لحظة ميلاده اليومي، حين يتحول الليل إلى نهار، وحين تتحول الصناديق إلى حياة.