Maroc - ALBILADPRESS.COM - A la Une - 05/Nov 23:50

الاستثمارات القطرية في الشانزليزيه.. من الرمزية إلى النفوذ الاقتصادي

حجم الاستثمارات في الشانزليزيه حسب الصحافة الفرنسية وبيانات السوق العقارية يتجاوز 1.5 مليار يورو العائد السنوي الصافي يتراوح بين 4 % و6 % من قيمة الاستثمار حسب محللين اقتصاديين فرنسيين   منذ مطلع الألفية الجديدة، بدأت ملامح الحضور القطري في قلب باريس تتشكل بهدوء، قبل أن تتحول خلال العقدين الماضيين إلى واحدة من أبرز قصص الاستثمار الأجنبي في فرنسا.  فبعد أن كانت الصفقات القطرية تتركز في قطاعات الطاقة والرياضة والفندقة، اتجهت الأنظار تدريجيًا نحو أكثر شوارع العاصمة الفرنسية شهرة: الشانزليزيه، هذا الشارع الذي يُعدّ واجهة باريس الفاخرة، صار مع الوقت موطنًا لعقارات مملوكة جزئيًا أو كليًا لجهات قطرية، حتى باتت التقديرات الحديثة تشير إلى أن ما يقارب 20 % من واجهات مبانيه مملوكة لمستثمرين قطريين، وفق ما نشرته صحيفة Le Monde في تحقيق استقصائي صدر في سبتمبر 2025. البداية.. عقد من التمدد الهادئ يعود دخول رؤوس الأموال القطرية إلى الشانزليزيه إلى أواخر العقد الأول من الألفية، فقد استحوذت جهات استثمارية قطرية بالعام 2010 على مبنى بارز يحمل الأرقام من 103 و111 في شارع الشانزليزيه بصفقة بلغت قيمتها نحو 440 مليون يورو، وفقًا لما نقلته الصحف الفرنسية آنذاك. كان ذلك أول مؤشر واضح على توجه قطر نحو الاستثمار العقاري الفاخر في أوروبا، خصوصًا في المواقع الرمزية ذات الطابع السياحي والتجاري العالي. لكن الصعود الحقيقي بدأ في العام 2012 عندما أعلن جهاز قطر للاستثمار (Qatar Investment Authority - QIA) شراء المبنى رقم 52 في الشانزليزيه، الذي كان سابقًا يضم متجر Virgin Megastore الشهير، في صفقة تجاوزت قيمتها 500 مليون يورو.  أثار هذا الاستحواذ اهتمامًا إعلاميًا واسعًا، ليس فقط لحجم المبلغ، بل لرمزية الموقع الذي يطل مباشرة على قوس النصر ويقع في منتصف أحد أكثر الشوارع زيارة في العالم.  بعد ذلك، أعادت قطر تطوير المبنى بالكامل لاحقًا، محولة إياه إلى مجمع حديث يضم متاجر فاخرة ومكاتب ومرافق متعددة الاستخدامات؛ ما رفع قيمته السوقية إلى أكثر من مليار يورو بعد إعادة تأهيله. قيمة الاستثمارات وأبعادها الاقتصادية لا توجد أرقام رسمية دقيقة توضح حجم الاستثمارات القطرية الكلي في الشانزليزيه، لكن تقارير “Le Monde” و “Gulf Times” وبيانات من السوق العقارية الفرنسية تشير إلى أن إجمالي هذه الاستثمارات يتجاوز 1.5 مليار يورو، موزعة بين عدد من العقارات التجارية والسكنية، كما يُعتقد أن بعض هذه الممتلكات تُدار عبر صناديق استثمارية متفرعة من جهاز قطر للاستثمار. وتعتمد جاذبية الشانزليزيه بالنسبة للمستثمرين على ارتفاع الإيجارات وعائدات رأس المال، إذ تُعد المنطقة من الأغلى في العالم من حيث العائد الإيجاري للمتر المربع الواحد، إذ تصل الإيجارات السنوية في بعض المواقع إلى 17,000 يورو للمتر المربع، وهذا يعني أن عقارًا بمساحة 1,000 متر يمكن أن يدرّ أكثر من 17 مليون يورو سنويًا من الإيجارات فقط؛ ما يجعل العائد طويل الأجل مجزيًا على رغم التكاليف الضخمة للشراء والصيانة. إضافة إلى ذلك، استفادت الاستثمارات القطرية من الاتفاقية الضريبية الثنائية الموقعة بين فرنسا وقطر في تسعينات القرن الماضي، والتي منحت المستثمرين القطريين إعفاءات أو تسهيلات ضريبية على الأرباح العقارية، وقد أشارت “Le Monde” في تقاريرها إلى أن هذه الاتفاقية لعبت دورًا جوهريًا في جذب رؤوس الأموال القطرية إلى سوق العقارات الباريسية. الأرباح والعوائد.. بين السرية والرمزية من الصعب تحديد الأرباح الدقيقة لهذه الاستثمارات؛ إذ لا تفصح الصناديق القطرية عادة عن نتائجها المالية التفصيلية، خصوصا في صفقات العقارات الدولية. لكن محللين اقتصاديين فرنسيين أشاروا إلى أن العائد السنوي الصافي (بعد حسم المصروفات والصيانة) يتراوح بين 4 % و6 % من قيمة الاستثمار، وهي نسبة عالية بالنظر إلى استقرار السوق الباريسية وطابعها الفاخر. وفي المقابل، يرى بعض المراقبين أن المكاسب ليست فقط مالية، بل رمزية واستراتيجية أيضًا؛ فامتلاك مساحات بارزة في الشانزليزيه يمنح قطر حضورًا ناعمًا في المشهد الثقافي والاقتصادي الفرنسي، ويعزّز صورتها كدولة تستثمر في الإرث الأوروبي وتشارك في تشكيل هوية باريس الحديثة. نسبة الملكية القطرية في الشارع التحقيق الذي نشرته “Le Monde” في سبتمبر 2025 كشف عن خريطة دقيقة للملكية في الشانزليزيه، تظهر أن الجهات القطرية تملك أكثر من 390 مترًا من الواجهات العقارية من أصل نحو 1.3 كيلومتر طولًا للشارع بأكمله، أي ما يعادل 20 % من إجمالي واجهات المباني، وهي نسبة ضخمة بالنظر إلى القيمة الرمزية والاقتصادية للموقع. هذه الملكيات موزعة بين مؤسسات وصناديق استثمارية، وبعضها يُدار عبر شركات فرعية أو كيانات قانونية في أوروبا، وهو ما يجعل تتبعها بدقة أمرًا معقدًا من الناحية القانونية، على رغم أن الصحافة الفرنسية تمكنت من تحديد الجزء الأكبر منها عبر سجلات العقارات العامة. المستقبل.. بين استمرار التوسع والضغوط المحلية تشير التقديرات الحالية إلى أن قطر ما تزال ترى في الشانزليزيه أصلًا استثماريًا طويل الأمد، خصوصًا مع استقرار سوق العقارات الفاخرة في باريس وارتفاع الطلب من العلامات التجارية الكبرى على المواقع المميزة. ومع إعلان قطر في العام 2024 نيتها استثمار نحو 10 مليارات يورو في الاقتصاد الفرنسي في الفترة الممتدة من 2024 إلى 2030، في مجالات تشمل الطاقة والذكاء الاصطناعي والصحة والسياحة والثقافة، يتوقع خبراء الاقتصاد أن يظل العقار الفاخر جزءًا من هذا التوجه، سواء عبر توسيع الحصص الحالية أو عبر شراكات تطويرية جديدة. لكن هذا الحضور المتزايد لا يخلو من الجدل داخل فرنسا؛ فبعض السياسيين والنقابات يرون أن توسع الملكية الأجنبية، ولاسيما القطرية، في قلب باريس قد يهدد التوازن الاجتماعي والاقتصادي للمدينة، ويحوّل الشانزليزيه إلى “منطقة للنخبة فقط”.  كما أن ارتفاع الإيجارات الناتج عن هذه الاستثمارات أسهم في إقصاء متاجر فرنسية صغيرة كانت جزءًا من الطابع التاريخي للشارع. من جهة أخرى، يرى مؤيدو الاستثمارات القطرية أنها ساعدت على تجديد البنية التحتية للمنطقة وضخّ رؤوس أموال جديدة ساهمت في الحفاظ على جاذبية باريس كعاصمة اقتصادية وثقافية عالمية.