- ALBILADPRESS.COM - A la Une - 27/Jun 21:45

أبو محمد.. كفيف يضيء بدالة جهاز حكومي منذ عقدين

في السادسة صباحًا، يصل حسام الشهابي (أبو محمد) إلى مقر عمله في جهاز المساحة والتسجيل العقاري. يجلس خلف البدالة، يفتح الخطوط، ويبدأ بتلقي اتصالات المواطنين، يوجههم بدقة إلى الأقسام المختصة، ويرد على استفساراتهم دون تردد. لا يعرف المتصلون أن الموظف الذي يتحدثون معه كفيف؛ لأن فقدان البصر لم يفقده حماسته تجاه العمل في يوم من الأيام. قال أبو محمد “أعمل كموظف بدالة، أستقبل مكالمات المواطنين وأَصِلُهم بالموظف المناسب أو أقدم المعلومة بنفسي إن كانت متوفرة لدي؛ لتسهيل الأمور وتوفير الوقت عليهم”. بدأ مشواره الوظيفي في العام 2005، بعد فترة قصيرة قضاها في شركة أخرى. لم تكن البداية سهلة، خصوصًا من حيث التأقلم مع بيئة العمل والتنقل كشخص كفيف، لكن سرعان ما تم احتواؤه كفرد من الفريق وأصبح جزءا أساسيا من أسرة الجهاز. وقال “لم أشعر يومًا بأني مختلف، الإدارة والزملاء كانوا داعمين لي دائما، وهذا الشيء كان له أثر كبير في نفسي وانعكس على أدائي أيضا”. وقالت إحدى زميلاته “أبو محمد ليس فقط موظف بدالة، هو روح المكان. دقته، هدوءه، وطريقته في التعامل مع المراجعين مصدر إلهام لنا جميعًا”. يتعامل أبو محمد يوميًا مع أكثر من 70 مكالمة، يوزعها بسلاسة على أقسام الجهاز المختلفة، محافظًا على هدوئه ودقته طوال ساعات العمل. ويؤمن بأن تقديم الخدمة بسرعة وإتقان يترك أثرًا طيبًا في نفوس الناس، ويستذكر موقفًا لم يغادر ذاكرته، حين حضر أحد المراجعين إلى الجهاز ليقابل الشخص الذي قام بخدمته ويقدم له الشكر بصورة شخصية امتنانا وعرفانا، وعندما قابله كان في حالة صدمة وذهول، وقال متفاجئًا “مستحيل أنت اللي كنت ترد علي!”، فأجابه بابتسامة “نعم، أنا هنا لخدمتكم بالرغم من أني كفيف”. وعلى رغم التحديات، يتقن أبو محمد حفظ أسماء الموظفين وأرقام التحويل الخاصة بهم، مستخدمًا طابعة “برايل” لطباعة الجداول في منزله، قال “أطبع الأسماء بمساعدة زوجتي وأولادي، وأراجعها حتى أحفظها، أعرف معظم الأقسام، خصوصًا الطابق الأرضي، المساحة، والتسجيل في الطابق الثامن”. وقال إن دعم أسرته كان وما يزال عاملا حاسما في قدرته على الاستمرار والعطاء، “زوجتي وأبنائي هم سندي الحقيقي، يدعمونني نفسيًا وعمليًا، وكل نجاح أحققه هو انعكاس لحبهم وصبرهم”. وفي حال نسي معلومة، يعود إلى ملفاته الورقية أو يستعين بزملائه بكل أريحية، ووضح “العمل الجماعي هو سر النجاح، وأنا محظوظ بأني جزء من هذه المؤسسة”. وتابع بفخر “فرحتي كانت كبيرة عند حصول مركز خدمة العملاء التابع للجهاز على تصنيف الفئة الذهبية ضمن مراكز الخدمة الحكومية الحاصلة على تصنيف الفئة الذهبية (تقييم 5) في برنامج تقييم مراكز الخدمة الحكومية، شعرت أني جزء من هذا الإنجاز، وأن جهودي المتواضعة كانت لها أثر ضمن البناء الجماعي لهذا النجاح. الإنجاز هذا يعكس روح الفريق الواحد، وأنا سعيد بأني أساهم فيه كل يوم من مكاني خلف البدالة”. وأضاف أبو محمد “إن ما يميز هذا الإنجاز أنه ثمرة لروح التطوير والتحسين المستمر التي ألمسها يوميًا في الجهاز. هذه الروح التي تنبع من رأس الهرم، من الإدارة العليا، وتنعكس على أداء كل موظف، هي المحرك الحقيقي لما وصلنا إليه اليوم. الكل يعمل بروح واحدة، وهدف واحد: تقديم الأفضل للمواطن”. وقال “أعتز كثيرًا بلقاءات رئيس الجهاز، وبتواصله المباشر والدائم معي، وحرصه على الاستماع لما أنقله من ملاحظات ومقترحات تصلني من المراجعين، إلى جانب اهتمامه بأدق التفاصيل. هذا النوع من التقدير ليس مجرد لفتة معنوية، بل هو نهج عملي يعزز الانتماء ويزرع الثقة، وأراه أحد الأسباب الأساسية لتطور الجهاز وارتقائه بمستوى الخدمة”. وعلى الرغم من سنوات العمل الطويلة، ما يزال يحمل في قلبه طموحًا للتطوير “أطمح للترقي والاستمرار في خدمة الناس، نحن من ذوي الهمم، نملك قدرات عالية، فقط نحتاج إلى فرصة لإثبات أنفسنا وأشخاص يؤمنون بنا”. كما دعا المؤسسات الأخرى إلى منح فرص حقيقية لأصحاب الهمم، مشيرًا إلى أن التحدي ليس في الإعاقة، بل في البيئة التي لا تحتضن المواهب، إذ قال ”ما نحتاجه ليس الشفقة، بل الثقة ومساحة للعمل والإبداع”. في ختام اللقاء، غادرنا جهاز المساحة والتسجيل العقاري، ولكن لم تغادرنا الدروس التي تعلمناها من أبي محمد بأن العطاء الحقيقي لا يُقاس بالبصر، بل بالبصيرة، ولا يُقاس بالمكان، بل بالأثر.