- ALBILADPRESS.COM - A la Une - 05/Sep 22:41

تحقيق "البلاد": اقتصاد المحتوى الهابط أرباح سريعة بثمن القيم

أمنية المزين: المحتوى الهابط ليس حرية بل خطر يهدد أبناءنا المحامية سارة جناحي: قانون البحرين يردع من يروّج للمحتوى المخل المراهقون.. الحلقة الأضعف في دائرة الاستهداف تشريعات خليجية صارمة في مواجهة الظاهرة الوعي المجتمعي.. السلاح الأهم لحماية القيم   في السنوات الأخيرة، تحوّلت منصات التواصل الاجتماعي من مجرد وسيلة للترفيه والتواصل إلى مساحة ضخمة لتشكيل الرأي العام والتأثير في أنماط التفكير والسلوك. ومع هذا التوسع، برزت ظاهرة باتت تثير القلق على المستويين الرسمي والمجتمعي، وهي ظاهرة “المحتوى الهابط”، الذي يقدمه بعض المشاهير وصنّاع المحتوى بقصد إثارة الجدل أو حصد المشاهدات والربح المادي السريع. وبينما يعتبر البعض أن ما ينشر يدخل في إطار الحرية الشخصية، يرى آخرون، ومن بينهم جهات رسمية وقانونية، أن هذه الممارسات تمثل تهديدًا مباشرًا للقيم المجتمعية والأخلاق العامة، وهو ما دفع النيابة العامة في البحرين خلال الفترة الماضية إلى إصدار بيانات وأحكام رادعة بحق متهمين تورطوا في نشر محتويات مخلّة بالآداب أو مثيرة للفتنة. ‮ 3 قضايا  ‮ ففي السادس من أغسطس 2025، أعلنت رئيس نيابة الجرائم الإلكترونية عن حبس متهم بعد رصد مقطع مصوّر يظهر فيه وهو يأتي سلوكًا مخلًا بالآداب العامة وماسًا بالقيم الأخلاقية وكرامة الإنسان. التحقيقات بيّنت أن المتهم نشر المقطع على حسابه في إحدى المنصات بقصد الحصول على دعم مادي من متابعيه، في مشهد يلخص كيف تحوّلت بعض الحسابات إلى مصدر دخل يقوم على الابتذال والإثارة. النيابة العامة شددت حينها على أن مثل هذه السلوكيات الشاذة والدخيلة على المجتمع البحريني تشكل إخلالًا بالنظام العام وتضع أصحابها تحت طائلة القانون، مؤكدة أن الحرية لا تعني تجاوز القيم الراسخة، وأن أي محتوى مسيء ستكون له عواقب قانونية صارمة. وقبلها بأيام، وتحديدًا في الحادي والثلاثين من يوليو، أصدرت المحكمة الصغرى الجنائية الثالثة حكمًا بحبس متهمة سنة مع النفاذ، وتغريمها مائتي دينار، ومصادرة هواتفها وإبعادها نهائيًا عن البلاد بعد إدانتها بنشر محتويات خادشة للحياء عبر حساب عام يتابعه الآلاف. تفاصيل الواقعة تكشف أنها كانت تتعمّد الظهور في وضعيات مخالفة للحياء، ما اعتبرته النيابة العامة سلوكًا يضرب في عمق القيم السائدة في المجتمع البحريني المحافظ. الحكم، بما تضمنه من سجن وغرامة وإبعاد، جاء بمثابة رسالة واضحة أن القانون في البحرين لن يتسامح مع من يحاول استغلال الفضاء الرقمي في نشر محتويات مخلة بالآداب العامة. أما في الثلاثين من يوليو، فقد طالت الإجراءات القانونية شخصًا آخر نشر مقاطع فيديو ذات خطاب طائفي من شأنه إثارة الفتنة بين مكونات المجتمع. النيابة العامة أوضحت أن المتهم بث عبر حسابه مقاطع تعرّض فيها لبعض الطوائف الدينية بشكل مسيء، وهو ما اعتبرته النيابة تهديدًا مباشرًا للنسيج المجتمعي. هذا النوع من المحتوى لا يقتصر ضرره على الإساءة الأخلاقية فحسب، بل يمتد إلى تهديد الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي، وهو ما استدعى تدخلًا سريعًا من الجهات الأمنية والقضائية لمنع انتقال مثل هذه الخطابات إلى ساحة عامة مفتوحة. هذه القضايا الثلاث تعكس مشهدًا متناميًا، حيث يسعى بعض الأفراد إلى الشهرة السريعة عبر أي وسيلة، حتى لو كانت مخالفة للقانون والأخلاق. استهداف المراهقين صانعة المحتوى الزميلة بصحيفة “البلاد” أمنية المزين وصفت هذه الظاهرة بأنها خطيرة جدًا على المدى البعيد، خصوصًا لأنها تستهدف المراهقين والأطفال، وتؤثر في تشكيل وعيهم. وقالت: “المحتوى الهابط ليس حرية، بل خطر يهدد أبناءنا، لا يمكن القبول به على أنه مجرد وسيلة للتسلية، لأن الأطفال والمراهقين يتأثرون بما يشاهدونه، ويعتقدون أن هذه هي الطريقة الطبيعية للحصول على الشهرة والمال”. وأضافت المزين أن السبب الرئيس وراء لجوء بعض المشاهير إلى مثل هذا المحتوى هو ثقافة “الترند” والسعي وراء المشاهدات والإعلانات، موضحة أن “الكثير منهم يعرف أن إثارة الجدل ستجلب له تفاعلًا كبيرًا، وبالتالي فرصًا للإعلانات، حتى لو كان ذلك على حساب السمعة والقيم”. ورأت أن هذه الظاهرة تنعكس سلبًا على صورة المشاهير أنفسهم، قائلة: “هم يظنون أن المال والسيارات الفارهة ستمنحهم مكانة، لكن في النهاية يصبحون مادة للسخرية، وتنحصر قيمتهم في الاستعراض والابتذال، فيما الضرر الأكبر يقع على المتابعين، وخاصة صغار السن”. وتؤكد دراسات عالمية هذه المخاوف، إذ بيّن تقرير صادر عن معهد الصحة النفسية الأميركي أن ثلاثة أرباع المراهقين يتعرضون لمحتوى غير لائق قبل سن السابعة عشرة، بمتوسط أول تعرض عند الثانية عشرة، ما يؤدي إلى اضطراب في تشكيل الهوية وصعوبة في بناء معايير قيمية متوازنة. تلوث بصري من الناحية الاجتماعية، يشدد خبراء الإعلام على أن انتشار المحتوى الهابط يساهم في خلق ما يُعرف بـ “التلوث البصري واللغوي”، حيث تنتشر لغة مبتذلة وصور مخالفة للحياء العام. وقد أظهر تقرير للمعهد الأسترالي لدراسات الأسرة أن المراهقين الذين يستهلكون مثل هذا المحتوى يطورون مواقف أكثر تساهلًا تجاه العلاقات غير المنضبطة، ما يخلق فجوة بين سلوكياتهم وقيم المجتمع المحافظ. كما أشار تقرير نشرته صحيفة فاينانشال تايمز إلى أن هذا المحتوى قد يدفع الشباب إلى النظر إلى أنفسهم كـ “كائنات للتلذذ”، وهو ما يزيد احتمالات انخفاض احترام الذات والاكتئاب. اضطراب نفسي وبيّن تقرير صادر عن منصة Common Sense Media أن 73% من المراهقين الأميركيين شاهدوا محتوى غير لائق قبل سن السابعة عشرة، وأن متوسط العمر عند أول تعرض كان 12 عامًا، ما يعكس خطورة هذه المرحلة العمرية على تشكيل الشخصية المستقبلية. تشدد خليجي  وإذا كانت التشريعات البحرينية واضحة في هذا الجانب، فإن الأمر لا يقتصر عليها وحدها. ففي السعودية، ينص قانون تنظيم الإعلام السمعي البصري على منع أي محتوى مخالف للآداب العامة، مع فرض عقوبات تصل إلى السجن والغرامات المالية. وفي الإمارات، شددت النيابة العامة أكثر من مرة على خطورة تداول المحتوى غير اللائق، مؤكدة أن العقوبات قد تصل إلى السجن والغرامات الباهظة. هذه المواقف تعكس أن الظاهرة باتت هاجسًا خليجيًا عامًا، وأن هناك إرادة مشتركة للتصدي لها حفاظًا على الأجيال القادمة. القانون يحسم‮  على الصعيد القانوني، أكدت المحامية سارة جناحي أن المشرّع البحريني تصدى مبكرًا لهذه المخالفات عبر مرسوم بقانون رقم 60 لسنة 2014 بشأن جرائم تقنية المعلومات، حيث نصّت المادة (10) منه على معاقبة كل من ينتج أو ينشر عبر الإنترنت مادة مخلة بالآداب العامة بالحبس مدة لا تقل عن سنة وغرامة تصل إلى عشرة آلاف دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين. وأضافت أن حرية التعبير في البحرين مكفولة بالدستور، لكنها ليست حرية مطلقة، إذ تقف عند الحد الذي يمس القيم أو النظام العام أو التقاليد الأصيلة. وأوضحت أن وجود هذه العقوبات لا يهدف فقط إلى معاقبة المخالفين، بل أيضًا إلى حماية المجتمع من تطبيع سلوكيات دخيلة تهدد هويته وتماسكه. مسؤولية المجتمع ولذلك، فإن المواجهة لا يمكن أن تقتصر على الردع القانوني وحده، فالمجتمع بأسره مدعو إلى شراكة واسعة للحد من انتشار المحتوى الهابط. الأسرة مطالبة بمتابعة ما يشاهده الأبناء وتوجيههم نحو البدائل الإيجابية، والمدارس تتحمل مسؤولية غرس ثقافة نقدية لدى الطلبة تجعلهم قادرين على التمييز بين النافع والضار. وقد أوصت منظمة اليونسكو في تقريرها لعام 2023 حول التربية الإعلامية بضرورة إدماج هذا النوع من المناهج في التعليم المدرسي، بهدف تعزيز وعي الطلبة بمخاطر البيئة الرقمية وتنمية قدرتهم على التعامل معها بوعي نقدي. الإعلام أيضًا معني بدور جوهري في إبراز النماذج الإيجابية ومنح مساحة أكبر للمحتوى الهادف، فيما يتحمل المعلنون مسؤولية اجتماعية بعدم تمويل الحسابات التي تقوم على الابتذال والإثارة. وعي المجتمع‮  وفي النهاية، تبقى الحقيقة واضحة: المحتوى الهابط ظاهرة تهدد القيم وتؤثر على الأجيال، وبينما يتصدى القانون لها بحزم، فإن الرهان الأكبر يبقى على وعي المجتمع وإرادته في رفض هذه السلوكيات، ودعم من يقدمون محتوى يرتقي بالذوق العام ويعكس صورة البحرين الحقيقية كبلد عربي محافظ يعتز بقيمه وأخلاقه. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل تكفي العقوبات وحدها للحد من هذه الظاهرة، أم أن المطلوب مشروع وطني شامل يدمج بين القانون والتربية والإعلام والتوعية المجتمعية؟