- ALITTIHAD.AE - الرئيسية - 31/Jul 20:15

منفى العاشق

من عُلوٍّ ستراه يهوي وقد تداعى، وتهتّكت صلابةُ روحه، واندسّ يأسٌ في ركبتيه، وأقعده الكدر. إنه العاشقُ حين يُفصل إلى نصفين فلا يعود ممتلئاً بالضوء أو ضاجاً به، ولا هو فارغٌ وكفّاه تغرفان من رمل الذكريات، ولا هو يمتطي الريح متنسكاً في معابدها هبوباً وسكوناً واختلاط تيهٍ بتيه. ذلك لأن العاشق يقيم في جُحرِ سرّه، بينما البقيةُ مفضوحون، وكمدٌ أيامهم، وتجلٍ وصفوٍ لياليه. ولو مرةً نطق الحجر لانكسر، ولو حدث أن قلبينِ اتحدا شغفاً بشغف، لرأينا الشياطين تتأوه كأنها ضُرِبت بمساميرَ طويلةٍ في أقدامها وقيل لها: انكفئي إلى وأدٍ أبدي، وهيهات أن تطول رقابكِ أو يصل فحيحُ وسوساتكِ إلى وعيٍ درّبه العشق أن يكون يقِظاً، وصار لا ينغلق إلا على انفتاحه، ويمدّ يداً تؤسس للألفة ولا يجرّها حبلُ الخشية أو يلويها قيدُ الخنوع. وعاشقٌ مثل هذا أبداً ليس يُدحر، بل يصير حاملَ النصل إذا طُعن الشيطان غدراً، وحُشرت همهماته في صمتٍ وأُغلق عليه. وربما رأيناه يفتك بمن ينتمون إلى الدنوّ من الشيء، والأصل عنده أن العشق ابتعادٌ وانفلاتٌ في شفقٍ سحري، وغرقٌ في ابتهاجٍ محض، كأن تدوس على الشوك لتروي الوردة من نزيفك، وكأن تهزّ الشجرة اليابسة فتسقط ورقتها الأخيرة في حضنك، لترى بعين عقلك كيف تولد الأشياء الصغيرة، وكيف تموت، ولا شيء يمنحها اخضرارها سوى ذلك التوق الخفي للامتلاء بلحظة الزمن كله. ولا يوجد زمنٌ حقيقي إلا في العشق، عندما يصعدان معاً، الرجل والمرأة، جبلَ الثلج فيذوب من تحتهما، ثم تأتي الخيول من تعطشها على المنحدرات لتشرب ما يعينها على الركض نحو التحرر من سرج الريح، ثم تُمسك المرأة بقميص الرجل، ويمسك هو بجدائل شعرها ويرقصان معاً في دوران الساعة، فتصير الساعة لحظة، ومن دورانهما تتحد الأشياء في الكون، وساطعاً ينفلق ضوءُ المسرة على رؤوس منتظريه. هيّا تشعّب، فِض، لا تستكن ولا تقف لتشرب من النبع أيها العاشق المنحدر من جبل الثلج. عُد إلى بركان روحك وأجّج تمردها بالرفض والرفس والصراخ في الوديان المطمئنة. كل تنهيدة في قلب العاشق تعادل تنفّس الأرض ملء رئتيها، كل قفزة لفتاة عاشقة هي دعوة لثورة الغزلان ضد الجاذبية، ذلك لأن الفارق بين المعنى الأسود والمعنى الأبيض ليس لونيهما، وإنما درجة انحدارك في لبِّ هذا أو جُبِّ ذاك، وعسى حين تكتشف هذا أن تنظر إلى العشق يوماً وتقول بجرأة المسافر: هذا عظيمُ منفاي.