Maroc - ALBILADPRESS.COM - A la Une - 24/Oct 21:55

اليابان.. نموذج عالمي في إدارة الكوارث الطبيعية

في تجربة ميدانية مميزة، جاءت زيارتي إلى اليابان لتكشف عن منظومة متكاملة لإدارة الكوارث الطبيعية، تُعد من الأكثر تطورًا في العالم، إذ جمعت بين التشريعات المتقدمة، والتنظيم المؤسسي الدقيق، وثقافة مجتمعية راسخة في الاستعداد والوقاية. تقع اليابان في قلب “حزام النار” في المحيط الهادئ، وهو نطاق يشهد نشاطًا زلزاليًا وبركانيًا مستمرًا؛ إذ تحتضن البلاد نحو 10 % من الزلازل العالمية و7 % من البراكين النشطة. وإلى جانب الزلازل والتسونامي، تتعرض اليابان سنويًا لأعاصير وأمطار غزيرة وعواصف ثلجية؛ ما يجعلها من أكثر الدول عرضة للكوارث الطبيعية في العالم. وعلى رغم هذا الواقع الجغرافي الصعب، نجحت اليابان عبر العقود في تطوير منظومة استثنائية تقلل الخسائر البشرية والمادية، عبر أنظمة دقيقة للتنبؤ بالأخطار، وشبكات إنذار مبكر متطورة، وتنسيق عالي الكفاءة بين الجهات الحكومية والمجتمعية. حتى ستينات القرن الماضي، كانت الكوارث الطبيعية تُخلّف دمارًا واسعًا وآلاف الضحايا، لكن مع مرور الزمن، نجحت البلاد في بناء قدرة مؤسسية ومجتمعية متميزة للحد من الأضرار. وعلى رغم هذه الجهود، ما زالت ذكريات زلازل مدمرة راسخة في الذاكرة اليابانية، أبرزها “زلزال هانشين-أواجي” بالعام 1995 الذي أودى بحياة أكثر من 6400 شخص، و “زلزال شرق اليابان الكبير” بالعام 2011 الذي أسفر عن أكثر من 22 ألف قتيل ومفقود. وتواصل اليابان حتى اليوم استعدادها لاحتمال وقوع زلازل ضخمة مستقبلًا، مثل “زلزال ننكاي تراوف” و “زلزال طوكيو الداخلي”؛ ما يجعل إدارة الكوارث جزءًا من الحياة اليومية للمواطن الياباني. وتستند سياسة إدارة الكوارث في اليابان إلى القانون الأساسي لإدارة الكوارث، الذي يغطي جميع المراحل؛ من الوقاية والاستعداد إلى الاستجابة والتعافي وإعادة الإعمار. ويحدد القانون بوضوح مهام الحكومة المركزية والمحلية والقطاعين العام والخاص، بما يضمن التنسيق الفعّال في مواجهة الطوارئ. وقد تم تحديث هذا القانون مرات عدة استنادًا إلى الدروس المستفادة من الكوارث السابقة؛ إذ شملت تعديلات العام 2012 تعزيز التعاون بين الحكومات المحلية، وجاءت تعديلات العام 2013 لتحسين إجراءات الإجلاء وحماية المتضررين، بينما أضيفت في العام 2021 أحكام لتنظيم الخطط الفردية للإخلاء والتنسيق بين المناطق في حالات الكوارث الكبرى. ومنذ العام 2011، أُنشئ منصب وزير الدولة لشؤون إدارة الكوارث؛ لتنسيق سياسات الوزارات المختلفة، كما تم في العام 2021 تعزيز سلطاته قانونيًا لضمان استجابة وطنية موحدة. ويُعد مكتب مجلس الوزراء الجهة المنسقة بين الهيئات الحكومية، بينما يتولى المدير العام لإدارة الكوارث إعداد السياسات الوطنية والإشراف على خطط الطوارئ. أما المجلس الوطني لإدارة الكوارث برئاسة رئيس الوزراء، فيحدد التوجهات العامة، ويقوم بتفعيل مقر الحكومة لإدارة الكوارث في حال وقوع كارثة كبرى لجمع المعلومات وتنسيق العمليات الميدانية. وتعتمد اليابان نظامًا متدرجًا من الخطط لضمان الشمول والمرونة في مواجهة الكوارث: - الخطة الأساسية لإدارة الكوارث: وهي المرجع الأعلى، تم إعدادها في العام 1963 وتُحدّث سنويًا، وتشمل فصولًا متخصصة حسب نوع الكارثة، مثل خطة التسونامي المضافة بعد العام 2011.  - خطة تشغيل إدارة الكوارث: تضعها كل وزارة وهيئة حكومية بناءً على الخطة الأساسية. - الخطة المحلية لإدارة الكوارث: تُعدها المحافظات والبلديات وفق طبيعة كل منطقة. - الخطة المجتمعية لإدارة الكوارث: وهي مبادرة تشاركية بين السكان والشركات لتعزيز مبدأي المساعدة الذاتية والتكافل المحلي، وقد تم إعدادها حتى العام 2020 في أكثر من 901 من المجتمعات المحلية. وفي حال وقوع كارثة، تبدأ السلطات المحلية بجمع المعلومات وتأمين الاتصالات لإطلاق عمليات الإنقاذ والإغاثة، بينما يُفعّل مركز إدارة الأزمات في رئاسة الوزراء لمتابعة التطورات على مدار الساعة. وفي الكوارث الكبرى، تُشكّل الحكومة غرف عمليات عليا برئاسة رئيس الوزراء أو وزير الدولة لشؤون الكوارث، كما يمكن إنشاء مقرات ميدانية في المناطق المتضررة لتنسيق الجهود مباشرة.  وفي حال تجاوزت الكارثة قدرات الحكومات المحلية، تُفعّل آليات الدعم الوطني عبر الشرطة وفرق الإطفاء وخفر السواحل وقوات الدفاع الذاتي، إضافة إلى فرق الاستجابة الطبية (DMAT) التي تقدم العلاج الفوري وتنقل المصابين جوًا أو برًا. كما تُرسل الحكومة المساعدات بشكل مباشر إلى المناطق المتضررة دون انتظار طلب رسمي، ضمن نظام “الدعم الدفعّي” الذي يضمن سرعة الإغاثة. وفي الزيارة الميدانية إلى مدرسة ابتدائية إعدادية باليابان، برزت ملامح الوعي المجتمعي العميق بإدارة الأزمات؛ إذ يجري الطلاب تدريبات دورية على مواجهة الكوارث؛ إذ يُقسّمون إلى فرق متخصصة للإطفاء، والإنقاذ، وإعداد الطعام، والإسعافات الأولية. ويُزوّد كل طالب بمعرفة عملية بكيفية البقاء لمدة ثلاثة أيام بعد الكارثة، وهي المدة التي يؤمن اليابانيون بأنها كافية حتى تصل فرق الإنقاذ؛ ما يعكس ثقافة انضباط واستعداد مترسخة في الوعي الجمعي.  ويشمل التدريب المدرسي كذلك تعلّم مهارات التعامل مع المواد الغذائية المخصّصة للطوارئ؛ إذ يُدرّب الطلاب على استخدام نوع خاص من الأرز الجاف القابل للطهو بالماء فقط، ويتميّز هذا الأرز بإمكان حفظه لفترات طويلة واستخدامه بسهولة في ظروف الكوارث. كما يتعلّم الطلبة كيفية إدارة الموارد المحدودة، وتوزيع الطعام والماء بطريقة عادلة ومنظّمة داخل مراكز الإيواء. ولا يقتصر دورهم على التعلم النظري، بل يُعدون جزءًا أساسيًا من منظومة الإغاثة المجتمعية؛ إذ يُكلَّف الطلاب، وفق خطة الطوارئ المدرسية، بتوجيه الأهالي نحو الملاجئ الآمنة ومساعدة كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة أثناء عمليات الإخلاء، ليصبحوا نموذجًا في القيادة والوعي والمسؤولية منذ مراحلهم الدراسية الأولى.  أظهرت الزيارة الميدانية أن نجاح اليابان في إدارة الكوارث لا يرتبط فقط بالتقنيات الحديثة أو البنية التحتية، بل يقوم أساسًا على ثقافة وطنية متكاملة من المسؤولية والالتزام والوعي، تمتد من الحكومة المركزية إلى المدرسة والحي السكني.  إنه نموذج إنساني وتنموي متكامل يُثبت أن مواجهة الكوارث تبدأ من الإنسان وتنتهي به، عبر العلم والتنظيم والثقافة الوقائية المستدامة.