بقلم لواء ركن / عرابي كلوب 22/12/2024م يوم الخميس الموافق...
Vous n'êtes pas connecté
مفوضية الاعلام والثقافة والتعبئة الفكرية في حركة فتح المحتويات *محجوب عمر..العمق العربي-د.حسين أبو شنب * الراهب محجوب عمر-عبدالفتاح القليلي(أبونائل) *الدكتور محجوب – معنى الثورة بقلم محمد البيروتي *محجوب عمر: الحكاية النادرة بقلم صقر أبو فخر *"الحكيــم" الزاهــد *محجوب عمر وهب عمره في خدمة فلسطين بقلم جنى بليبل *محجوب عمر: الفدائي التاريخي، "خدام اللطافة" "البركة" بقلم د. سعود المولى حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح مفوضية الإعلام والثقافة والتعبئة الفكرية 2021م محجوب عمر..العمق العربي د.حسين ابو شنب انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة بقيادة حركه التحرير الوطني الفلسطيني-فتح بشعارها الثلاثي "فلسطينية الوجه،عربية العمق، عالميه الامتداد والجذور” كانت هذه الانطلاقه في الفاتح من يناير عام ١٩٦٥ وذلك في وقت عصيب اشتدت فيه المؤامرة الاستعمارية-الصهيونية، واخترقت كل الحدود والقوانين وابتعدت عن القيم الأخلاقية، والإنسانية، والحق في الحرية والاستقلال. في مقابل هذه المؤامرة الصهيونية -المدعومة من أعداء الأمة العربية والاسلامية- قام الأبطال الباحثون عن الحرية في العالم العربي والعالم، بالتصدي لهذه المؤامرة، ومواجهين الشائعات والروايات والاتهامات فاربكوا الصهيونيه وأعوانها وأمثالها. علي هذا الطريق، طريق الثورة والحرية، تدافعت الجماهير الفلسطينية في كل أماكن تواجدها معلنةً بصوت عال وصاخب تأييدها المطلق للحرية، وبالانتماء لكوادرها ضمن نسيج الثورة الفلسطينية في كل المجالات والتخصصات العسكريه والسياسيه والاقتصاديه والإعلامية، والفنية بأناشيدها الوطنيه الثورية المتميزة باعثه الحيوية وتنمية روح الانتماء والثورة واستمرار العطاء والبذل في كل مجال. روّاد وعشّاق الحرية الفلسطينيون أبدعوا في تخصصاتهم، وبذلك تحقق البند الأول من الشعار الثلاثي وهو "فلسطينية الوجه"، فهي للكلّ الفلسطيني من كل الانتماءات والاتجاهات. وتدفق الكثيرُ من البارز ين في الأحزاب القومية العربية (واليسارية) العاملة تحت شعار الوحدة العربية، والسجل الفلسطيني حافلٌ بهؤلاء، ومساهماتهم العظيمة. من الطبيعي أن يتحقق العمقُ العربي لدي الجماهير العربية بوجه عام، وبالتخصيص من الكفايات العربية في كل المجالات وبخاصه في ميدان الفكر والثقافة والمحبة، وعبر الذوبان في قلب العمل الوطني الثائر الذي هزّ الكثير من العروش التي أقامت وجودها علي غير طريق العمل الوطني الميداني الذي اعتمدته حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية مشكلةً إطارًا جامعًا وحاميًا لكل الأفكار والاتجاهات. في هذا الاتجاه، امتد العمق العربي الذي جسّده العنوان الثاني في الشعار الثلاثي "فلسطينية الوجه عربية العمق عالميه الامتداد والجذور" أي "عربية العمق" فشهدت الساحه الفلسطينيه الثائرة استقطابات واسعه من الكفايات العربيه المؤهله والمتخصصه عسكريا أوإعلاميا وسياسيًا، أوطبيًا أوفنيًا...الخ، وانعكس ذلك بوضوح علي روّاد الحركة الفلسطينية والعربية في مجال الكتابة والغناء والفنون التشكيليه. ومنهم الذين أبدعوا في أعمالهم وأحسنوا في التعبير عن عطاءات الثورة والانطلاق، مماعزّز الوجود النضالي في كل المنطقة العربية والدولية. من هذا الطراز المميز الكاتب والباحث والمقاتل العربي الشهيد د.محجوب عمر الذي عاش مع القرار الوطني الفلسطيني المستقل ومع القيادة الفلسطينية الرائدة، فكان نموذجًا ومناضلًا جماهيريًا بارزًا عاش روح الثورة مع المقاتلين، والجماهير وعاش روح الامتداد مع الطليعة التي جسدها فرسان الانطلاقه أبو عمار وابو جهاد وابو اياد وكمال عدوان وأبو يوسف النجار وكمال ناصر وماجد ابو شرار، وكل صحبهم. كان محجوب عمر فارسًا في العطاء الميداني، والانتماء والتعبير الحر. كان كذلك مميزًا في وقت عجزت الكثير من الأقلام عن الصمود. شكل الروّاد العرب عامة علامة بارزة في الثورة الفلسطينية. وممن اقتحموا الميدان النضالي أيضًا في مصر العروبة كان لطفي الخولي الكاتب المفكر المبدع والدكتور سامي منصور الباحث والمسئول في مركز الدراسات بالاهرام وغيرهم الكثير الذين يحتاجون الي دراسه مفصله توثق التفاعل العمق العربي مع الثورة الفلسطينيه التي انطلقت في الفاتح من يناير عام١٩٦٥ وشكلت إطارًا واسعا للأحرار والثوار والكتاب والادباء وأهل الفن ونجومه الذين يحملون لفلسطين كل المحبة وتحمل فلسطين لهم كل الاحترام والتقدير، وسيبقي دورهم عامرًا في قلوب الفلسطينين والعرب والاحرار بوجه عام. نقدم مع هذا الملف إطلالة مخصصة عن المناضل النموذج الكبير د.محجوب عمر. "الراهب" محجوب عمر عبدالفتاح القليلي (القلقيلي) تعرفت على محجوب عمر في النصف الاول من عام 1969 عندما كنت في لجنة اقليم الاردن لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح). كنت في زيارة للوحدة العسكرية في قرى الطفيلة، وكان من المفروض ان اسأل عن قائد الوحدة او المفوض السياسي. وقفت أمامه معجبًا ومذهولا: مفوض سياسي ويغسل جواربه وجوارب بعض العناصر في (طشت) الغسيل وهو يدندن ببعض الاغاني الوطنية. (قحمزت) بجانبه وقلت له: انا ابو نائل من لجنة الاقليم وأحييك على ما تقوم به وسأنتظرك حتى تنهي عملك لنتحدث معا. وبعد انتهائه من عمله جاء ليعتذر، فقلت له: مارايته منك يؤكد انك ثائر حقيقي ومفوض سياسي جاد، فضحك المقاتلون الموجودون وقالوا بصوت واحد وهو ايضا دكتور ومن اخواننا المصريين!!!! قمت واقفا وقلت: وانت تمثل قمة فتح وعمقها العربي. ومن يومها وانا اعتبره صديقي الأقرب، واستشيره بكثير من القضايا، وهو من الكوادر القليلة جدا الذين يلتزمون بالحكمة التي تقول: الخلاف لا يفسد للود قضية، فتجد حلقة اصدقائه كباقة من الزهور (من كل بستان زهرة). ومن يعرفه حديثا قد يتوه في تصنيفه،فيعتبره من الصوفيين الزاهدين بمتع الحياة، وقد يعتبره ماركسي لينيني، من أشد المناهضين لاستغلال الطبقة العاملة، وقد يعتبره أحد رهبان الكنيسة، ومن أشد الناس دعوة الى السلام الانساني. وان تحدثت معه عن التاريخ العربي القديم ستحتار ان كان سنيا ام شيعيا ام من الخوارج! وان سألته مباشرة عن انتمائه سيقول لك: هذا غير مهم، ولكن اذا كان ذلك مهم لك فانا قبطي دينا، وماركسي ايدلوجيا، وعضو في حركة فتح سياسيًا. ووصفه السيد هاني فحص بانه أحد رهبان دير أبو جهاد خليل الوزير، وهو لايفرق بين المسلم والمسيحي، ولا بين السني والشيعي خاصة اذا كانت وجوههم معفرة بغبار الفقر او النضال. اما الوثائق المصرية الرسمية فتقول: ولد رؤوف نظمي ميخائيل عام 1932 في محافظة بني سويف في صعيد مصر أتى الى القاهرة في مطلع العشرينات من عمره في عهد جمال عبد الناصر حيث درس الطب. انضم اثناء الدراسة الى الحزب الشيوعي المصري مما قاده الى سجن الواحات الذي كان معمورا بالشيوعيين والاخوان المسلمين. وتوفي في مستشفى فلسطين في القاهرة في 17 مارس 2012 بعد اصابته بجلطة دموية كانت قد اثرت على حركته، وفي أواخر ايامه صار على كرسي متحركة. وفي اذار2012اعلنت جمعية اصدقاء احمد بهاء الدين الثقافية تأسيسها لجائزة سنوية عن القضية الفلسطينية باسم الدكتور محجوب عمر ستمنح لأفضل كتاب بحثي يطرح رؤية استشرافية واقعية للقضية ويتناول ابعادها، ويساهم باضافة تأصيل للحقوق الفلسطينية. وكان الرئيس ياسر عرفات قد كرمه عام 2004 بمنحه وسام نجمة القدس تقديرا لاسهامه في خدمة القضية الفلسطينية تعمقت صلتي به بعد أن عدت من الصين ، فوجدته يعمل في قطاع نسور العرقوب الذي يقوده الرفيق نعيم. ونعيم هو الوحيد في كوادر فتح الذي يطلق عليه لقب الرفيق من قبل جميع الكوادر والقيادات اعترافا له بتقدميته ويساريته رغم أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب. لم اجد لمحجوب عمر شبيه في فتح ما عدا أبو عمر (الدكتور حنا ميخائيل) الذي اعتزل الرفاه والنعيم وغطس بالنضال بكل اشكاله، فكلاهما اصر على ان لا يبقى على شاطئ النضال، يتفرج أحيانا ويبتعد احيانا اخرى اذا هاج البحر مثلا، ولكنهما قفزا في لجة هيجانه. فهذا ابو عمر الذي ترك الجامعات الامريكية وعلى رأسها هارفارد ليلتحق ب (معسكر 99) في جبال السلط /الأردن مع ابو نضال وابو نائل لا يكاد يجد فراشا،وقبله محجوب عمر ترك أبهة الطب في مصر ليسير حافيا على شواطئ الثورة الجزائرية، فيبعث لصديقه الاقرب الدكتور قدري حفني في 29-11 68 (( مازلت اسعى للسفر حيث القتال يدور)). وهناك في الجزائر يلتقي بالاخوين ابو جهاد خليل الوزير وابو حاتم محمد ابو ميزر، فيرحبا به ويعجبا بثوريته،ويؤمنا له السفر الى الاردن عندما كانت الاردن هي الساحة الرئيسية لحركة فتح وللمقاومة الفلسطينية عموما. وعندما علم اهله وذووه بمكانه اخذوا يلحون عليه العودة الى مصر ومنهم صديقه الدكتور قدري حفني فيبعث رسالة الى صديقه واهله يقول فيها ((انا اعرف انني ساواجه واقعاحيًا مليئا بالمشاكل والتخلف، ولكني اثق ان الكفاح المسلح،وحده، هو الطريق الى أي بلورة ثورية حقيقية، كما انه السبيل الوحيد لكي يتعلم المرء من جديد كيف يناضل. لست مخدوعا في اي شيء،وقد كان من كرم هؤلاء الثوار ان سمحوا لي بالانضمام الى ركبهم بعد ان حذروني بانفسهم مما سأجد وسأواجه. سأتعلم وأحاول ان اقدم للثورة اقصى ما أستطيع.....))، واوصى صديقه قائلا: لا بأس ان تبلغ الاهل والاصدقاء بين الحين والاخر انك عرفت انني بخير، حتى لو كذبت. الكل يعرف ان محجوب عمر عمل في صفوف فتح في كل الميادين وجميع الاوقات: كان الطبيب حين الحاجة، والمقاتل في الميدان، والمثقف في مراكز الدراسات والابحاث والتخطيط. لم يكن يغير تصرفاته لتتناسب وما يقوم به. كان يكنس العيادة، والمركز، وكثيرا ما كان ينظف الحمامات مع مَن يتبرع من العاملين في المركز. وكذلك كان ابو عمر فعندما كان ابو عمر في مكتب الاعلام المركزي في جبل اللويبده في عمان بدأ يوما بالتنظيف فاشتركت معه ام نائل التي كانت في الاعلام انذاك. وكان يناديه أحبابه ب-(خدام اللطافة) وذلك لانه كان يقولها للجميع حين يطلب منه شيئا. وعندما يتحدث عن محجوب رفاقه في الحزب الشيوعي المصري في زنازين سجن الواحات حيث كان ينظف الزنزانة الجماعية، او حينما كان ينظف عيادات في مستشفى دمياط الاميري، وكان احيانا ينزل الخضروات والتموين من سيارة التموين ليراقب المقاول من ان يتلاعب بالتموين. وكان الجميع يتمنى له ((حسن الختام)) وقد كان، فلقد كان نصيبه ان تزوج في اخر أيامه سيدة فاضلة متفضله في كل المجالات اطلاقا، فقد كانت زوجة وفية له، وأختًا شقيقة له، وأما رؤوفة به، وأنيسة ممتعة له. وأذكر انني حين زرته في بيته في القاهرة وكان لايكاد يعي تماما. مالت عليه كما تميل الام على طفلها الوحيد قائلة: هذا صديقك ابو نائل!!! ماذا تقول له. قال بصعوبة: ساق الله على ايام الطفيلة. فقد نسي كل علاقاتنا بعد الطفيلة ومازال يحتفظ بأول لقاء لنا . الدكتور محجوب – معنى الثورة محمد البيروتي - غدا الجمعة سوف نذهب للصلاة أيسخر منا هذا الصعيدي القبطي الماركسي، هذا ما خطر ببالي بمجرد سماعي لجملته التي صدرت من فمه وكأنها أمر - لكننا لا نصلي. أجبته جازما. - ومع ذلك سنذهب غدا لصلاة الجماعة في جامع القرية. ما زالت علامات الدهشة بادية على وجوهنا، نحن الاربعة. كان الحاج حسن، قائد قوة الجليل قد ارسله لنا في واحدة من قرى جنوب لبنان. هو يُعّدنا لمهمة ما، وهو بخبرته يعلم ان أفضل تدريب في مجال العمل الجماهيري يمكن ان نحظى به سيأتينا عن طريق الدكتور محجوب. علامات الاستفهام على وجوهنا تتطلب إجابة، لذا سرعان ما قال. - لكننا قبل ذلك سنقوم بزيارة ودِّية للامام في منزله مساء هذا اليوم. في المساء، قمنا سوية، نحن أربعة شبان أغرار إضافة إليه، بزيارة امام الجامع في بيته، استقبلنا بحفاوة، تجاذبنا معه أطراف الحديث. بدا لنا ان الدكتور يستدرجنا ويستدرج الامام معنا إلى نمط معين من الكلام، عن صعوبات الحياة للقرويين اللبنانيين، عن الزراعة، وتدريجيا تحدثنا عن العلاقة بين الثورة والشعب، عن السمكة والبحر، عن فتح وفلسطين، عن فلسطين كقضية العرب جميعا، عن مواجهة العدوان الاسرائيلي وحتمية النصر. كانت الكلمات تنساب من بين شفتي الدكتور محجوب، سلسة غير متكلفة. تشعرنا بالمتعة، متعة الحوار الراقي. في ذات المساء تركنا وانصرف عائدا إلى بيروت. لكنه أكد على ضرورة مشاركتنا في صلاة الجماعة في اليوم التالي. وكان له ذلك، قررنا ان نأخذ الامر على محمل الجد، توضأنا وانتظمنا في صفوف المصلين، ربما للمرة الأولى منذ سنوات واستمعنا الى خطبة الجمعة. وكما خمنتم، جاءت خطبة الإمام استعادة لما قيل في المساء السابق. لقد اوصل الدكتور أفكاره الى أوسع جمهور ممكن عن طريق شخص يحظى بثقة الجمهور، عن طريق الامام. في جلسة سابقة سألنا: هل تعرفون ما هو الحب؟ "بالطبع" أجبته جازما. "هذا جيد" أجاب. "الثورة مثل الحب، الفعل في الخفاء، والنتائج علنية". لم تكن هذه جملة عابرة بل درس تفاعلي حول العمل السري ونتائجه. وضع علبة السجائر وولاعة الغاز على الطاولة، نحن مقابله تماما. ولعبنا لعبة المحقق والسجين. افترض بأننا لن تتجاوب مع المحقق في حال وقوع أي منا بالأسر. بل أن العمل الثوري يستمر حتى بعد الوقوع في الأسر، غادر الغرفة وعاد بعد دقائق. مباشرة تناول القداحة واشعل سيجارته، بحذر. انطلقت منها شعلة عالية كان يمكن ان تسبب له لسعة حارقة لو لم يحتط لذلك. كنت قد رفعت مستوى تدفق الغاز حتى حدوده القصوى. رأيت علامات الرضا في عينيه. لم يكن الدكتور عمر محاضرًا، لم يحدث خلال لقائنا هذا وفي لقاءات أخرى ان ادلى بأقوال نمطية هو يعلم اننا كنا نحفظها غيبا، فقد سبق ان قرأنا عن تجارب ماوتسي تونغ، عن جياب وهوشي منه، عن جيفارا والثورة الجزائرية، عن فتح وتاريخ الثورة الفلسطينية ما قبل النكبة. كان يدرك ان المحاضرة ليست سوى عبث ومضيعة للوقت. بالمقابل، كان يقودنا الى استنباط ما يدور بعقله، يستفزنا كي نعرف، يوترنا كي نتصرف، يحرك مكامن الذكاء فينا. لا ابالغ إذا قلت، انه الوحيد الذي ترك لدينا إرثا لا يزول. نحن فدائيون، تلقينا تدريبات مكثفة على السلاح، المتفجرات، الصواريخ وكل ما يلزم، استمعنا الى محاضرات عن الثورة والثورات العالمية. في غالب الأحيان، كنا نسخر من الموجّه السياسي، المثقف الجامعي القادم من مكاتب بيروت الى قواعد الجنوب ومغارات الجولان. فما الذي يعرفه هذا المتأنق عن زرع لغم او اطلاق صاروخ كاتيوشا او تفخيخ جسر أو الزحف على الاشواك والصخور الحادة تحت قصف الطيران والمدفعية. أحيانا، كنا ندفع ذلك المثقف نحو مجاراتنا في المسير، ولا نعود الا وقد تورمت قدماه وأصيب بالانهاك. هكذا كنا ننتقم من مُترفي المكاتب والسفارات والبعثات ممن يحفظون العبارات النمطية الكبيرة. في تلك الفترة لم تكن لبنان قد اجتازت أزماتها الكبيرة، ولم تكن الكتيبة الطلابية قد تشكلت بعد لتشارك بفعالية عالية في معارك الجنوب وبيروت، من خلال اولئك المثقفين والطلاب الجامعيين. محجوب شخص مختلف. لم يكن موجها سياسيا، ولا مثقفًا يمتلئ فمه بالعبارات الكبيرة المشتقة من مؤلفات لينين وماوتسي تونغ وكيم ايل سونغ كما كان يفترض بهذا الماركسي أن يكون. كان أقرب الى أن يكون معلّماً، قائدًا، زائرًا دائما للقواعد، ربما كان هو الأكثر شهرة بين جموع المقاتلين في القواعد، في لبنان وسوريا، وبالتأكيد في المرحلة السابقة، مرحلة قطاعات الاردن والميليشيا ومعسكرات الأشبال. على الرغم من اكتظاظ صفوف الثورة بالمفكرين والمنظرين الكبار، على شاكلة منير شفيق، ومحمد داوود ابو داوود، وناجي علوش وماجد ابو شرار وخالد الحسن. كان هو الاكثر قربا من قلوب قادة القطاعات، بلطفه الزائد، ونمطه الحيوي، والذي يمكن ان اصفه وصفا عصريا بأنه كان تفاعليا. ربما يعود ذلك الى اننا تربينا في مرحلة كان لمصر فيها التأثير الأكبر على وعينا، من حيث الثقافة، الفن، الغناء، السينما، الفكاهة، الأدب والشعر. جاء هذا المصري القبطي الماركسي، ليغزو قلوبنا ومحبتنا واحترامنا. كان يدرك تماما ان الثورة يجب ان يقودها أبناؤها، ابناء فلسطين، لذا كان كرجل الظل، ذو تأثير حاسم لكن خلف قادة فلسطينيين، وقد برز ذلك بعد ان أسس مركز التخطيط الفلسطيني الذي ترأسه منير شفيق وكان محجوب نائبا له. هذا المركز الذي استُهْدِف بعبوة ناسفة ربما ناهزت المئتي كيلوغرام من "التي ان تي". وفي هذه اشارة واضحة، ان الثقافة ربما تكون اشد خطرا من البندقية. لذا لم يحدث أن شاهدت الدكتور حاملًا لبندقية، فذلك الاعزل اشد خطورة من البنادق. ولكي يستمر دوره هذا فلم يلتحق بأي من التيارات التي ميزت حركة فتح في تلك الفترة، كان خارجها، بل فوقها جميعا. كان على علاقة مباشرة بأبي عمار، وأبي جهاد، كرجل مشورة، ورجل المهمات. وإذا شئنا المزيد من دقة الوصف، فقد شكل الدكتور الجسر بين السياسة والبندقية، بين المعرفة والممارسة، بين الثقافة والقتال. ما لا يعلمه الناس عنه أنه كان كاتبا فذا، ومترجما لأمهات الكتب، ومؤلفا مسرحيا للأطفال، وشاعرا شعبيا، نبع شعره من عمق الشعب المصري، دون تحيز، فالثقافة المصرية الشعبية تسري عميقا في عروقه، وانا أخط هذه السطور، اتساءل وبحق، اين هي مؤلفات محجوب عمر، اي هي كراساته الصغيرة التي كانت تصدر عن مركز التخطيط، بضعة وريقات تحتوي على نص محدد في مجالات الثورة والحرب والتنظيم والشعب، اين كتابه عما جرى في مستشفى الاشرفية، اين كتابه ذكريات من زمن الجنوب، اين كتابه يوميات حصار تل الزعتر. اين هذا التراث الكبير الذي أرّخ للثورة على مدى سنواتها ابتداء من عام الهزيمة 67 وحتى وفاته، فهو الى أن مات في القاهرة، مشلولا عاجزًا، استمر يؤدي واجبه ناحية الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، فإن كانت ساقاه لم تعودا تحملانه، فقد حمله لسانه وعقله النيّر. (الصورة للدكتور محجوب عمر، مع سليم الزريعي بالملابس العسكرية، والحمار على حدود قطاع غزة) كأي مصري، كان ذا حس فكاهي متطور، قصائده الشعبية ذات الطابع الفكاهي تحمل في طياتها دروس الثورة والاحتمال والصبر. من لا يذكر قصيدة الحمار. فالحمار عند قدماء العرب، كائن ذكي، صبور، شديد الاحتمال، شجاع، حتى انهم سموا آخر خلفاء بني امية بمروان الحمار، لشدة تحمله وصبره وشجاعته في قتال الخوارج واعداء الدولة. الحمار لدى د.محجوب كائن رائع، فكان أن ألقى قصيدته الفكاهية الرائعة ، والتي قال فيها: "أنا اسمي حمار، معروف مشهور، شيخ الشطار، شغيل، بشيل الحمل الثقيل، ومصروفي قليل، انا اسمي حمار". قبل يومين، نشر سليم الزريعي على صفحته نصا وصورة، الصورة تجمعه مع محجوب عمر عام 1995 أثناء زيارته لغزة بصحبة أحمد نصر في مرجعية حركة فتح، أما النص فقد اشار فيه الى أن لقاءه الأول معه تم في قاعدة الشهيد أحمد موسى في الغور الجنوبي عام 1969. هذا زمن طويل من العطاء الذي لا ينضب، ليكن تراثه نبراسا لنا، وإذا كان لدينا القليل من الاحترام لتراثنا الثوري، فمن واجبنا أن نسعى، ليس فط الى تكريم الراحل، بل بإحياء تراثه. محجوب عمر: الحكاية النادرة صقر أبو فخر اسمه الأصلي رؤوف نظمي ميخائيل عبد الملك صليب. أما اسمه الذي صار حكاية من حكايات النضال الفلسطيني فهو «محجوب عمر». وقد كان من حُسن طالعي أنني ترافقت وإياه خمس سنوات كاملة في مركز التخطيط الفلسطيني، من سنة 1977 حتى سنة 1982، وكنا في الطبقة نفسها من مبنى المركز. قبل ذلك أتيح لي ان ألتقيه مرات قليلة، لكن مقادير من حياته في الأردن سبقته إلينا، وشاعت بيننا، وشوقتنا إليه في الوقت نفسه. ومن الحكايات التي تروى عنه أن احدى المريضات ذهبت إلى عيادته في الأردن تشكو وجعاً ما، فوجدت شخصاً ينظف العيادة، فاعتقدت أنه الممرض، وطلبت إليه ادخالها على الطبيب. فما كان منه إلا ان طلب منها الانتظار قليلاً، وتابع تنظيف العيادة. فاستاءت المريضة، ومع ذلك قعدت تنتظر. ولما انتهى محجوب من شطف الغرفة، توجه إليها قائلاً: تفضلي يا أختي، ممّ تشكين؟ فصرخت في وجهه قائلة أن عليه ان يدخلها فوراً إلى الطبيب، لا أن يسألها عمّ تشكو. وحين أخبرها انه هو الطبيب، تعجبت، وأنِسَت إليه. هذه ليست حكاية، بل طريقة حياة اختطها محجوب عمر طول حياته. وقد اختبرت ذلك بنفسي. ففي إحدى المرات، في مركز التخطيط، تأخر عمال النظافة عن القدوم إلى المركز جراء التقاصف اليومي إبان الحرب الأهلية، فاتسخت قاعات المركز ومكاتبه. وفجأة شاهدنا محجوب وهو يبادر إلى ملء الجرادل بالمياه، ويدلقها في الغرف والممرات، ثم يقوم بشطفها. فخجلنا، وقمنا على الفور لنساعده. ****** كان محجوب شيوعياً. لكنه، حين دهمته هزيمة حزيران 1967، غرق في حال من التأمل، وراح يراجع أفكاره وخياراته السياسية. وكان اسم «فتح» قد بات يتلألأ في سماء العالم العربي، واكتشف أن طريق «العاصفة» هو الرد الحقيقي على الهزيمة، فاختارها، وترك كل شيء والتحق بها. قال لي مرة في اثناء إحدى المجادلات أنه يكن احتراماً كبيراً لجمال عبد الناصر، وأنه بكى بحرقة حين مات، لكنه لا يحبه. وعندما رأى الدهشة في عيني، تابع شارحاً: نعم، لا احبه، لانه ببساطة سجنني عشر سنوات. لكنني احترمه كثيراً، فقد كان زعيماً حقيقياً. علّمني كيف استمع بشغف إلى محمد عبد المطلب ولا سيما أغنية «ساكن في حي السيدة وحبيبي ساكن في الحسين». وكان حين تغرق الطبقة الرابعة في مركز التخطيط بالصمت أحياناً جراء الانهماك في العمل، يتحرك من مكتبه، ويأمرنا بالتوقف عن العمل: انها «استراحة أم كلثوم»، ويروح يعدّ الشاي الأسود بيديه ويقدمه لنا بلا سكر بعد ان نتجمع في مكتبه. وكم جرفته نشوة الطرب، فيروح يغني المواويل الصعيدية الحزينة والجارحة. أطلق على منطقة الفاكهاني والجامعة العربية اسم «المربع». وكان يقول إنه المربع الأخير للثورة الفلسطينية، فاحترسوا من الاساءة للناس. وصدق حدسه. وفي هذا المربع تعرف إلى منى عبد الله العاقوري، المناضلة اللبنانية الفريدة التي كرست نفسها لمبادئها وله، فتزوجا.وكانت منى دائما رفيقته وأمه التي تصغره عمرًا بحسب السيد هاني فحص. في سنة 1976 حين بدأت طلائع الجيش السوري تتدفق على لبنان، كنا، كما هو معلوم، ضد هذا الدخول. فقال لي محجوب مرة: لماذا أنت ضد دخول الجيش السوري إلى لبنان؟ فأجبته: لان ذلك ضد الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وهو إنقاذ للانعزاليين اللبنانيين. فقال: أولاً، هذا البلد مش لأبوك لتحدد أنت من يدخل إليه ومن يخرج منه. ثانياً، انتبه، ألا ترى ان هذا الدخول ربما يكون مقدمة لتحطيم حدود سايكس ـ بيكو، فمنذ سنة 1920 لم يجتاز جندي عربي حدود لبنان، وها هو الجيش السوري يجتازها الآن؟ لقد دفعني كلامه آنذاك إلى اعادة التفكير في موقفي، لكن قصة تحطيم حدود "سايكس ـ بيكو" لم «تضبط» مع محجوب هذه المرة. ****** قبل زواجي دخت في التفتيش عن منزل فما وجدت. وأخيراً عثرت على واحد متواضع، لكن ايجاره كان فوق طاقتي (500 ليرة شهرياً)، فاستنكفت عن استئجاره. غير ان محجوب دفعني دفعاً لاستئجاره، وأهداني، لاحقاً، كرسيين من بيته، وطناجر وصحون من الالمنيوم و"بابور بريموس" من مستودعات حركة «فتح». وضحكت قائلاً له: من ذا الذي ما زال يستخدم البريموس حتى الآن؟ فأجابني: ربما تحتاجه في معمعان هذه الحرب في ما لو انقطعت الكهرباء وفقد الغاز في الوقت نفسه. ولم يطل الأمر كثيراً حتى وقع اجتياح سنة 1978، وتدفق النازحون على الملعب البلدي قبالة بيتي. فجمعت ما أهدى إليّ محجوب، وكانت لا تزال في صناديقها، وقدمتها للنازحين واخبرته عن ذلك. فقال: ألم تر! ها ان البريموس برهن عن فائدته. في احدى ليالي الاجتياح «الإسرائيلي» (للبنان) في سنة 1982 التقيته في أحد الأماكن، وكانت القوات «الإسرائيلية» اجتازت نهر الأولي نحو الشوف. وقلت له ان الأنباء المتواترة تشير إلى ان الجيش «الإسرائيلي» سيتوقف عند نهر الدامور. فضحك مني وقال لي: فكّر قليلاً. لماذا سيتوقفون عند الدامور؟ ولماذا لا يصلون إلى بيروت؟ جهّز نفسك لحصار طويل وقتال شرس، فسيصل «الإسرائيليون» إلى بيروت قريباً. وهذه المرة صدق محجوب. ****** ما هبطت القاهرة مرة إلا وكانت زيارة محجوب ومنى عبد الله هدفي المعلن أو المكتوم والمضمر معاً. بعد عودته من لبنان اقام في المنيرة بالقرب من السيدة زينب، وفي احدى المرات كنت في منزله، وجاء السيد هاني فحص، وتغذينا معاً، وصلى هاني فحص في منزل القبطي وفي منزل المارونية. وأنا «تباركت» بالثلاثة. وفي السيدة زينب دعاني محجوب ومنى مع مستشرقة أوروبية إلى العشاء في الشارع. في الشارع؟ قلت له: فأجابني: نعم، في الشارع، وسترى القاهرة الحقيقية، وهي غير التي تراها من فندق «شبرد» أو من شوارع «غاردن سيتي». انها قاهرة ما بعد العاشرة ليلا حين تهبط أبواب المحال، وترتفع أمامها فوراً الطاولات والكراسي والمطابخ المتنقلة، وتبدأ حياة اخرى تماماً. كان محجوب عمر في القاهرة، تماماً كما كان في بيروت، مملوءا بالحكمة والتواضع والصبر والإصرار، فأسس مركزاً بسيطاً للأبحاث والدراسات الفلسطينية. وقد زرته في هذا المركز الواقع فوق مكتبة اسماعيل عبد الحكم، مقابل روز اليوسف، ووجدته يحاول ان يوجه طالباً سورياً ذكياً يدرس في الجامعة الأميركية. وكانت لدى هذا الطالب مشكلة في النطق، وكان محجوب صبوراً بطريقة عجيبة. وبعد انتظار طويل انهى محجوب لقاءه مع ذلك الطالب واتجه نحوي معتذراً، فقلت له: نيالك على هذا الصبر. مع ان هذه الصفة ليست غريبة، على الاطلاق، عن محجوب، ولم يكن مستغرباً أيضاً اعجاب محجوب بالحمار الذي كان يعده فيلسوفاً وصبوراً معاً، وكتب له قصيدة لحّنها بول مطر يقول . ****** طوى محجوب عمر سنوات عمره فارساً مكافحاً ومناضلاً ومفكراً وكاتباً وباسماً في كل وقت، ومتفائلا في جميع الأوقات، وكان أمثولة نادرة في الزهد والتفاني والتواضع والحنو. لهذا صارت سيرته حكاية تروى في صعيد مصر وفي جنوب لبنان وفي فلسطين التي امتلأت أزاهيرها بعطر هذا «الحكيم» الذي لا يتكرر. ـــــــــــــــــــــــــــــ "الحكيــم" الزاهــد ولد في بني سويف-مصر سنة 1930. التحق بكلية الطب في جامعة القاهرة سنة 1948، وتخرج طبيباً في حقل التخدير. انضم إلى الحزب الشيوعي المصري. اعتقل في سنة 1954، واشتهر بصموده أمام التحقيق، وكان قد اتخذ اسماً حركياً هو «محجوب عمر» الذي سيلازمه طوال حياته. ثم اطلق في سنة ١٩٦٤. سافر إلى الجزائر في تشرين الأول 1968 ثم غادرها في أيار 1969 ليلتحق بصفوف الثورة الفلسطينية، في الأردن. انتقل إلى لبنان، وعين مفوضاً سياسياً لقوات «فتح» في الجنوب اللبناني. ثم انتقل إلى مركز التخطيط الفلسطيني الذي صار المركز معه محوراً لسجالات سياسية ونقاشات فكرية متعددة الاتجاهات. ساهم في صوغ خطاب ياسر عرفات الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1974. بقي في بيروت حتى خروج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان في سنة 1982، فاضطر إلى العودة إلى القاهرة التي تابع فيها نشاطه الفكري والسياسي والصحافي. قلده ياسر عرفات في 18/2/2004 وسام نجمة القدس، وهو أرفع وسام فلسطيني. مؤلفاته : «السبع في السيرك» (مسرحية كتبها في سنة 1974 وأخرجها روجيه عساف)، «قصة مستشفى الأشرفية» (1971)، «حوار في ظل البنادق» (1975)، «الناس والحصار» (1983)، «الاختراق» (1994). توفي في القاهرة في 16/3/2012. محجوب عمر وهب عمره في خدمة فلسطين. محجوب عمر وهب عمره في خدمة فلسطين جنى بليبل الكتاب الذي أعدّه أصدقاء المناضل المصري محجوب عمر، يضمّ أبرز مقالاته الفلسطينية والعربية كي يتعرّف «الجيل الثوري الشاب» إلى «الحكيم» كما يُلقب. يضم العمل فصولاً تمتد من الصراع العربي -الإسرائيلي، ونكبة فلسطين، والحرب الإسرائيلية على لبنان، وصولاً إلى الانتفاضة والاتفاقيات التي عقدت مع الكيان العبري انطفأت المناضلة اللبنانية منى عاقوري (1948 ـــ 2017)، قبل أن تتسنى لها رؤية الكتاب الجامع لإرث الطبيب المصري الراحل رؤوف نظمي ميخائيل (1932ـــ 2012)، المعروف باسمه الحركيّ «محجوب عمر»، بعدما كان لها الفضل في تجميع مضامينه وتبويبه. بين فصول «كتابات لفلسطين وقضايا عربية: محجوب عمر عرب بلا حدود» الصادر حديثاً عن «دار الفلاح» الأردنية، تنقشع الرؤية عن المحطات التاريخية، المضيئة والكالحة، التي عايشها قرين عاقوري ورفيق دربها، طوال 80 عاماً من الكفاح الفكريّ والمسلّح في خدمة القضية الأم: فلسطين. ماذا يعني أن ينتمي المرء لفلسطين، وأن يهب ملء سنينه، معترِكاً ومناظراً ومساهماً، في سبيل هذا الانتماء؟ هكذا كان محجوب عمر، مذ قرر الانضواء في الحزب الشيوعي المصري في ريعان شبابه، وحتى تسريحه من أسر نظام يوليو بعد عقد كامل من التنكيل والمشقة، وانخراطه في حركة «فتح» إبان النكسة، ليغدوَ لاحقاً واحداً من أبرز قياداتها. ولعل مقدرة الرجل على الإطاحة بالأطر الهوياتية السائدة والنهل من مختلف المرجعيات العقائدية، خولته للجمع بين شخصية محجوب الفدائيّ المنصهر في بيئة عربية تكتسي طابعاً إسلاموياً، ورؤوف المتجذر من أصول صعيدية وقبطية قُحّة. "الحكيم" الذي عاش مرتحلاً بين ميادين الاقتتال والاشتباك بدءاً بمصر والجزائر، وصولاً إلى الأردن ولبنان، تمكّن من تكديس رصيد هائل من الزخم المعرفيّ والميدانيّ، ما أتاح لإسهاماته أن تكون أكثر عمقاً وخصوبةً وإدراكاً للتحولات في العالم العربي، ولسيرورة النضال الفلسطينيّ وأدواته على وجه التحديد. حقيقةٌ تبدو جلية في معظم المخطوطات التي يحتويها كتاب «عرب بلا حدود»، وإن كان منها ما يستدعي السجال أحياناً. ولما كان «خدام اللطافة»ـــ لقب يروق لمحبي محجوب مناداته به نظراً لشدة تواضعه ـــ شاهداً على أبرز الأحداث المصيرية التي هزت الوطن العربي، كالحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 واستيطان الـ48، وحرب أكتوبر والانتفاضة الفلسطينية وحربيْ الخليج، ومعايناً بارعاً لكثير من التشققات والشروخ التي عصفت بالعديد من المنظمات الثورية والائتلافات الدولية حتى آلت بها إلى دوامة التقهقر والاندثار، فإنه أجاد تقديم معالجةٍ استكشافية شاملة لمجمل هذه الوقائع والأزمات فور حدوثها، صائغاً بذلك معجماً تأريخياً مصغراً لتركة هذا الماضي، واستشرافياً للمستقبل في الآن نفسه. لم تكن بيروت التي قصدها بعد خوضه لمحنة أيلول الأسود في الأردن عام 1970، محطةً اعتيادية في حياة مستشار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وإذ إن شهادة عمر للغزو الصهيوني الذي امتد حتى مشارف العاصمة اللبنانية وما رافقه من استهجان عربي مشروط كانت قد وردت في كتابه «الناس والحصار» عام 1983 (دار العربي للنشر- القاهرة)، إلا أنها أيضاً تحضر في النصوص التي ضمّها كتابه الجديد، كأنموذج فاقع على حالة الهبوط القومي العربي إزاء كل الأزمات السياسية الملحة، بما فيها القضية الفلسطينية "المشتركة" في مجموعته الأرشيفية المكثفة، ينحو الكاتب إلى المقاربات المنهجية، المذيلة بالاقتراحات والتوصيات التي تنوّه بضرورة الالتحام العربي والالتفاف نحو الواقع الفلسطيني ورأب صدوعه. يأتي ذلك سعياً منه إلى تكريس نزعته القومية العروبية المناهضة لـ «الانعزاليات الإقليمية والاستقلالية التنظيمية». رؤيةٌ تناقض تجربة المفكر الأممية الوجيزة، لكنها تآلفها في بعدها الطبقي والشعبويّ: «وهل يمكن إحداث تقدم اجتماعي جوهري قبل التحرير والوحدة؟ هل يمكن إلغاء الاستغلال الرأسمالي في وطن محتلّ؟» (1977_«قضايا تنظيمية في الطريق إلى الوحدة» العدد 67 من مجلة "شؤون فلسطينية")". لاحقاً، يلج صاحب «حوار في البنادق» (1975-دار الطليعة) إلى غياهب الهيكل المؤسسيّ الإسرائيليّ، متقفياً أثر التغيرات الداخلية الطارئة على المجتمع اليهوديّ، والصدامات الفكرية الناشئة عن اقتحام السيل الليبرالي الغربي للمحيط اليميني المتطرف الطاغي على أنساق الكيان الاستيطانيّ الاجتماعية والثقافية. ينشغل بعدها في رصد تجربة نتنياهو في الحكم (1997)، ونقد دعاويه الإجلائية القائمة على «الترانسفير» والإبعاد القسرييْن للفلسطينيين القابعين بين أسوار الاحتلال. وفي حين ترتطم قراءات الكاتب والشاعر المصريّ للراهن الفلسطيني ومآله بشيء من الطوباوية في بعض الأحيان، كمقترحه باتحاد الأقطار العربية، وهو موقف إيجابي تعلله المناخات الأيديولوجية المهيمنة في تلك الحقبة وحيثياتها، إلا أنها لا تحيد عن الواقعية الشديدة في أحيان أخرى. ولعل إسهابه في توكيد أهمية «الخطوة الجريئة» التي أقدم عليها المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الـ19، وتقضي بقيام دولة فلسطينية مستقلة، هي المثال الأنصع على ذلك: «إعلان الاستقلال الذي يراه البعض منقوصاً لأنه لا يشمل كل الوطن الفلسطيني الآن، يعد خطوة عملية في الهجوم على العدو الصهيوني وشق صفوفه» (1990 ــ «مسيرة الاستقلال الوطني»، العدد 205 من مجلة «شؤون فلسطينية»). إضافة إلى مواقفه المحابية لمعهادتيْ أوسلو 1 و2 واتفاق غزة- أريحا، بحجة أن «الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي على الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية هو اختراق تاريخي في مجرى الصراع العربي- الإسرائيليّ» (1993 ــ «اتفاق غزة-أريحا وتغير الاستراتيجية الإسرائيلية»، العدد 23 من مجلة «شؤون الأوسط»). عاش مرتحلاً بين ميادين الاشتباك بدءاً بمصر والجزائر، وصولاً إلى الأردن ولبنان على الرغم من انحيازه المطلق لتجارب منظمة التحرير الفلسطينية وحركة «فتح» في مقارعة الاحتلال، بكل ما تكتمه هذه الأخيرة من تعرجات وثلوم، إلا أن «راهب الثورة» لا يستثني الدور الرئيس الذي لعبته الفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى كحركة «حماس»، وغير الفلسطينية كـ «حزب الله» في إرهاق العدو الصهيونيّ ميدانياً وإرهاص مطامعه المتطاولة. وفي إحدى أحدث دراساته التحليلية، يعرّج عمر على عدوان «عناقيد الغضب» الذي شنّته "إسرائيل" على لبنان في نيسان (أبريل) 1996، مشرّحاً ما أحاطه من معطيات وأهداف استراتيجية تقضي باقتياد لبنان وسوريا إلى حالة من التزعزع والفوضى، وإضعاف «دور إيران المتنامي في الساحة الشرق أوسطية». إلا أنه لا يلبث أن يخلص إلى الإخفاق الذي منيت به تلك المحاولات بعدما فشلت في «عزل حزب الله» في الساحة اللبنانية، وإفقاده الدعم الجماهيري العربي، باعتباره أبرز قوة مقاومة عسكرية حالياً لإسرائيل» (1996 ـ «الحرب الإسرائيلية ضد لبنان» ــ العدد 51 من مجلة "شؤون الشرق الأوسط"). ولعلّ وثيقةّ أرشيفية غزيرة كهذه، بكل ما تكتنزه من نضج وحدس معرفيّ ثاقب، ستدفع قارئها إلى التساؤل حتماً عن طبيعة الآراء التي كان سيدلي بها ابن فلسطين ونصيرها الصلد لو أنه شهد على كارثة القرن التاريخية التي أدت إلى استلاب كامل القدس على مرأى من العالم أجمع، في زمن الورع الترامبيّ! محجوب عمر: الفدائي التاريخي "خدام اللطافة" "البركة" د. سعود المولى في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين ترددت في الحلقات الشيوعية المصرية همسات عن مناضل شيوعي سجين "مثير للجدل" اسمه الرفيق محجوب، كان يحاور وينتقد ولا يقبل بالتبريرات الموسكوبية الرسمية بل يناقش الخط العام للحركة الشيوعية المصرية والعالمية داخل زنازين السجن.. وفي سجن الواحات الخارجية دهش "الرفاق" لرؤية الطبيب يقوم بالخدمة العامة دون تفلسف أو تأفف ومهما كانت طبيعة الخدمة وصولاً حتى إلى قيام الدكتور بتنظيف الزنزانة الجماعية.. وحين انضم في العام 1959 إلى نزلاء معسكر التعذيب في ليمان (سجن) أبو زعبل اشتهر الرفيق محجوب بصموده الأسطوري تحت سياط الجلادين.. اسمه الحقيقي: الدكتور رؤوف نظمي ميخائيل عبد الملك صليب... نعم مسيحي... فهو فلاح قبطي صعيدي ، وُلِدَ في بني سويف عام 1932 وانتقل مع الأسرة إلى القاهرة. نشأ في الحيّ الشعبي "حوض الزهور" بالسبتيّة حيث كان والده رئيس لجنة "الوفد" وساهم في ثورة 1919. في الجامعة، التي دخلها في أكتوبر 1948 كطالب في كلية الطبّ، التقى بقائد "اللجان الشعبيّة-المقاومة الوطنيّة" التابعة للحزب الشيوعي المصري. كانت هذه اللجان تعمل في إطار الكفاح المسلّح الذي انطلق سنة 1950-1951 الموجّه ضد القوات البريطانية في منطقة القنال. وكان هذا أوّل عهد رؤوف نظمي مع الحزب الشيوعي. أصبح مسؤول الجامعة ثم القاهرة (1952)، وعضواً في اللجنة المركزية للحزب. لعب دورا في تقارب الحزب الشيوعي المصري مع سائر التنظيمات ومنها جماعة "الإخوان المسلمين" في إطار سياسة "مدّ اليد لكل القوى" المناهضة للاحتلال البريطاني. تمّ القبض عليه في نوفمبر عام 1954. وتتالت محطّات السجن إلى أن خرج منه عام 1964 وقد عاد الى السجن في العام 1966 ليخرج بعد نكسة حزيران وقد قرر المضي في طريق جديد.. ورغم العذاب الرهيب الذي استمر سنوات اعتقاله في (سجن) أبي زعبل الشهير فقد استمر مؤمناً بالجماهير ولكنه خرج من تجربة المعتقلات مولياً ظهره للعمل التنظيمي الشيوعي السري دون أن تنقطع صلاته بهموم مصر وشعبها ومناضليها من كل الاتجاهات والتيارات وخصوصاً رفاق السجن والتعذيب... بعد خروجه من السجن، عمل طبيباً بمستشفى بنها ثم مستشفى دمياط التابعين لوزارة الصحة المصرية حيث طار صيته كطبيب للفقراء وكانسان متواضع... وجاءت نكسة حزيران ثم انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني بقيادة حركة فتح ليبدأ محجوب عملية مراجعة قاسية قدّم فيها نقداً ذاتياً وموضوعياً لتجربة العمل اليساري والسري في مصر والعالم العربي على السواء وليتبنى شعار حرب الشعب الطويلة الأمد كعنوان لمسيرته الجديدة... وحين أعلن لرفاق دربه (وخصوصاً صديقيه الرفيقين الدكتورين قدري حفني ويسري هاشم) أنه حسم خياره بالالتحاق بحركة فتح (1967) وقرر أن يسافر إلى الجزائر حيث مركز الشهيد القائد خليل الوزير قال لهم إنه يريد الذهاب إلى حيث القضية الأولى وحيث الاشتباك المباشر مع العدو... عمل محجوب طبيباً في مستشفى مدينة تلمسان بغرب الجزائر بانتظار انتقاله إلى الأردن حيث كان يلح بشدة على قيادة فتح بضرورة الموافقة على تحوله إلى مقاتل.. وحين جاءت الموافقة من ياسر عرفات في منتصف شهر أيار 1969 احتار خليل الوزير ماذا يكتب على قرار التحاقة بقوات العاصفة (في 21 أيار 1969)..هل يلتحق كطبيب وهو يرفض ذلك، أم كمقاتل وهو دكتور؟؟ فكتب أبو جهاد: "يلتحق الدكتور محجوب عمر بقوات العاصفة بصفة بَرَكة للقوات"... الأردن بداية المشوار في الأغوار الأردنية عاش محجوب عمر عيشة المقاتلين... وقد لمع اسمه وخطه عندما أقامت فتح معسكر العمل الدولي في ضواحي مدينة الكرك صيف 1970 والذي شاركت فيه مجموعات من الشباب من أوروبا وأميركا.. في هذا المعسكر الشبابي الدولي ناقش محجوب مع المناضلين والمثقفين الغربيين اليساريين شعار فتح في إقامة دولة فلسطين الديموقراطية العلمانية .. وفي قواعد الأردن أسهم محجوب في إنشاء الخدمات الطبية لقوات العاصفة ومن خلالها قام بتأسيس عيادات شعبية منتظمة لا سيما في منطقة جنوب الأردن الصحراوية (معان والطفيلة والشوبك) التي يغلب على تركيبتها السكانية الطابع العشائري البدوي.. عينته قيادة قوات العاصفة مسؤولاً عن القطاع الجنوبي ومفوضاً سياسياً للقوات في الأردن (وبعده لبنان).. هذا القائد الجماهيري العظيم أرسى في جنوب الأردن نمط تعامل كسر من خلاله الفدائيون الأفكار المسبقة عن البدو والمفاهيم الخاطئة عن الثوار.. وأسس لعمل سياسي حول فلسطين دعمه أسلوب ثوري مبني على خدمة الناس (مقولة ماو تسي تونغ : لنخدم الشعب) ومشاركتهم همومهم اليومية... فالتحم الفدائيون مع العشائر في تجربة حضارية تضافرت خلالها قيم البداوة العربية مع قيم الفدائية الثورية لتصنع ملحمة قل نظيرها في تجربة الثورات المعاصرة... وارتقى العمل الفدائي في جنوب الأردن إلى مستوى منهج أخلاقي مبدأه شعار محجوب عمر:"لن نطلق النار على الجماهير حتى لو كانت تطلق النار علينا"..وقصة هذا الشعار تعود إلى استشهاد أربعة مقاتلين من أصدقاء محجوب رفضوا الرد على إطلاق النار عليهم يوم بدأت الفتنة الأردنية الفلسطينية عشية أيلول الأسود 1970.. من الجنوب انتقل محجوب إلى عمان المحاصرة والمقاتلة والتحق فوراً بمستشفى الأشرفية ... صمد المستشفى أمام هجمات وحشية استمرت من الخميس 17 ايلول حتى السبت 26 أيلول حين سقط المستشفى بعد استشهاد وجرح العشرات... وقد كتب محجوب تجربته تلك في كراس صغير صدر باسمه عن دار الطليعة، بيروت، أيار 1971، بعنوان: "قصة مستشفى الأشرفية"... تقول روز شوملي مصلح: "لقد سجل د.محجوب، وهو يروي المحادثة اليومية في مستشفى الأشرفية، قدرة عالية في كتابة النص المسرحي، ومن يقرأ مسرحية "السبع في السيرك" التي كتبها محجوب عمر وأخرجها المخرج اللبناني المعروف روجيه عساف، وعرضها في مخيم شاتيلا في صيف 1974، يدرك هذه القدرة. وما يلفت النظر في نصوص محجوب هو هذه الأناقة في التقاط الحركة، وفي التعبير عن العمق الإنساني بطريقة أدبية رهيفة".n
بقلم لواء ركن / عرابي كلوب 22/12/2024م يوم الخميس الموافق...
بقلم لواء ركن / عرابي كلوب 22/12/2024م يوم الخميس الموافق...
بقلم لواء ركن / عرابي كلوب يوم الخميس الموافق 19/12/2024م...
محمد قاروط ابو رحمه مقدمة: يهدف هذا الملف كيف نفهم النظام الداخلي لحركة...
اعلام فتح / من وفا- أكد مشاركون في مسيرة جماهيرية حاشدة، نُظمت، ظهر اليوم...
إياد أبو روك لنتحدث بوضوح وسط المأساة المستمرة في غزة، حيث تتوالى الجرائم...
برحيل الفنان المصري الكبير أستاذي وصديقي نبيل الحلفاوي، يكون الفن العربي قد خسر...
برحيل الفنان المصري الكبير أستاذي وصديقي نبيل الحلفاوي، يكون الفن العربي قد خسر...
مظاهر التفكير الإيجابي وبرمجته بكر أبوبكر في الاتصالات وبناء أو...
يشن الشعب الجزائري هذه الأيام حملة ضد نظامهم، ولأجل هذا الغرض اطلقوا هاشتاك...